الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
/فأجاب: أما الوصية بما يفعل بعد موته، فله أن يرجع فيها ويغيرها باتفاق المسلمين، ولو كان قد أشهد بها وأثبتها، سواء كانت وصىة بوقف أو عتق أو غير ذلك، وفي الوقف المعلق بموته والعتق نزاعان مشهوران. والوقف على زيت وشمع يوقد على قبر ليس برًا باتفاق العلماء، بل ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لعن الله زَوَّارَات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسُّرج). وأما تنوير المسجد النبوي على المصلين وغيره فتنوير بيوت الله حسن، لكن إذا كان للمسجد ما يكفي تنويره لم يكن للزيادة التي لا فائدة فيها فائدة مشروعة، ولم يكن ذلك مصروفًا في تنويره، بل تصرف في غيره. والله أعلم.
فأجاب: يصرف في نظير تلك الجهة، كالمسجد إذا فضل عن مصالحه صرف في مسجد آخر؛ لأن الواقف غرضه في الجنـس، والجنس واحد، فلو قدر أن المسجد الأول خرب ولم ينتفع به أحد صرف ريعه في مسجد آخر، فكذلك إذا فضل عن مصلحته شيء، فإن هذا/الفاضل لا سبيل إلى صرفه إليه، ولا إلى تعطيله، فصرفه في جنس المقصود أولي، وهو أقرب الطرق إلى مقصود الواقف، وقد روي أحمد عن على ـ رضي الله عنه: أنه حض الناس على إعطاء مكاتب، ففضل شيء عن حاجته فصرفه في المكاتبين.
فأجاب: قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (المسلم أخو المسلم، لا يحل للمسلم أن يبيع على بيع أخيه، ولا يستام على سَوْمِ أخيه، ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في صفحتها، فإن لها ما قدر لها). فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم في عقود المعاوضات قد نهي أن يستام الرجل على سوم أخيه، وأن يخطب على خطبته قبل أن يدخل المطلوب في ملك الإنسان، فكيف يحل للرجل أن يجيء إلى من فرض له ولي الأمر على الصدقات أو غيرها ما يستحقه ويحتاج إليه فيزاحمه على ذلك، ويريد أن ينزعه منه؟ ! فإن هذا أشد تحريمًا من ذلك. والله أعلم.
/ فأجاب: نعم إذا كان قلع الأشجار مصلحة للأرض بحيث يزيد الانتفاع بالأرض إذا قلعت فإنها تقلع. وينبغي للناظر أن يقلعها ويفعل ما هو الأصلح للوقف، ويصرف ثمنها فيما هو أصلح للوقف من عمارة الوقف، أو مسجد، إن احتاج إلى ذلك. والله أعلم.
/فأجاب ـ رحمه الله: الحمد لله، نعم إذا كان هذا مصلحة للمسجد وأهله وليس فيه محذور إلا مجرد الوضوء في المسجد جاز أن يفعل ذلك، فإن الوضوء في المسجد جائز، بل لا يكره عند جمهور العلماء. والله أعلم.
فأجاب: الحمد لله، نعم يجوز أن يعمل في ذلك ما كان مصلحة للمسجد وأهله، من تجديد عمارة، وتغيير العمارة من صورة إلى صورة ونحو ذلك. والله ـ سبحانه ـ أعلم.
/ فأجاب: الحمد لله، إذا أمكن الجمع بين المصلحتين بأن يصرف ما لابد من صرفه لضرورة أهله، وقيام العمل الواجب بهم، وأن يعمر بالباقي، كان هذا هو المشروع. وإن تأخر بعض العمارة قدرًا لا يضر تأخره، فإن العمارة واجبة، والأعمال التي لا تقوم إلا بالرزق واجبة، وسد الفاقات واجبة، فإذا أقيمت الواجبات كان أولى من ترك بعضها. وأما من لا تقوم العمارة إلا بهم ـ من العمال، والحساب ـ فهم من العمارة. وأما ما فضل من الريع عن المصارف المشروطة ومصارف المساجد، فيصرف في جنس ذلك، مثل عمارة مسجد آخر، ومصالحها، وإلى جنس المصالح، ولا يحبس المال أبدًا لغير علة محدودة، لا سيما في مساجد قد علم أن ريعها يفضل عن كفايتها دائمًا، فإن حبس مثل هذا المال من الفساد:
/ فأجاب: إن كان لمغل السنة الثالثة مصارف شرعية بالشرط الصحيح وجب صرفها فيه، ولم يجز للحاكم أخذه. وأما إذا لم يكن له مصرف أصلًا، واقتضي نظر الإمام أن يصرفه إلى الحاكم عوضًا عما فاته في الماضي، جاز ذلك. والله أعلم. /وقال الشيخ الإمام العالم العلامة أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية ـ قدس الله روحه:
في [إبدال الوقف] حتى المساجد بمثلها أو خير منها للحاجة أو المصلحة وكذلك إبدال الهدي، والأضحية، والمنذور، وكذلك إبدال المستحق بنظيره إذا تعذر صرفه إلى المستحق. والإبدال يكون تارة بأن يعوض فيها بالبدل، وتارة بأن يباع ويشتري بثمنها المبدل. فمذهب أحمد في غير المسجد يجوز بيعه للحـاجة، وأما المسجد فيجوز بيعه ـ أيضًا ـ للحاجة، في أشهر الروايتين عنه، وفي الأخرى: لا تباع عرصته، بل تنقل آلتها إلى موضع آخر. ونظير هذا [المصحف]، فإنه يكره بيعه كراهة تحريم أو تنزيه. وأما إبداله، فيجوز عنده في إحدى الروايتين عنه من غير كراهة، ولكن ظاهر مذهبه: أنه إذا بيع واشترى بثمنه، فإن هذا من جنس/الإبدال؛ إذ فيه مقصوده، فإن هذا فيه صرف نفعه إلى نظير المستحق إذا تعذر صرفه إلى عينه. فإن المسجد إذا كان موقوفًا ببلدة أو محلـة، فإذا تعذر انتفاع أهل تلك الناحية به صرفت المنفعة في نظير ذلك، فيبني بها مسجد في موضع آخر، كما يقول مثل ذلك في زيت المسجد وحصره إذا استغني عنها المسجد: تصرف إلى مسجد آخر، ويجوز صرفها عنده في فقراء الجيران. واحتج على ذلك: بأن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ كان يقسم كسوة الكعبة بين المسلمين، فكذلك كسوة سائر المساجد؛ لأن المسلمين هم المستحقون لمنفعة المساجد، واحتج على صرفها في نظير ذلك: بأن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ جمع مالًا لمكاتب ففضلت فضلة عن قدر كتابته، فصرفها في مكاتب آخر، فإن المعطين أعطوا المال للكتابة، فلما استغني المعين صرفها في النظير. والمقصود أن أحمد بن حنبل ـ رحمه الله ـ اختلف قوله في بيع المسجد عند عدم الانتفاع به، ولم يختلف قوله في بيع غيره عند الحاجة. قال في رواية ابنه عبد الله: إذا خرب المسجد يباع، وينفق ثمنه على مسجد آخر. وقال القاضي أبو يعلى في [المجرد] وابن عقيل في [الفصول] وغيرهما ـ واللفظ للقاضي ـ: ونفقة الوقف من غلته؛ لأن القصد الانتفاع به مع بقاء عينه. وهذا لا يمكن إلا بالإنفاق عليه، فكان إبقاؤه يتضمن الإنفاق / عليه، وما يبقي للموقوف عليه، فإن لم تكن له غلة مثل أن كان عبدًا تعطل أو بهيمة هزلت، فالموقوف عليه بالخيار بين الإنفاق عليه؛ لأنه هو المالك، وبين أن يبيعه ويصرف ثمنه في مثله. وإن كان الموقوف على المساكين، فالنفقة في بيت المال؛ لأنه لا مالك له بعينه، فهو كالمسجد. . . وإن رأي الإمام بيعه وصرف ثمنه في مثله جاز، وإذا كان الوقف دارًا فخربت وبطل الانتفاع بها، بيعت وصرف ثمنها إلى شراء دار، ويجعل وقفًا مكانها. وكذلك الفرس الحبيس إذا هَرَمَ وتعطل يباع ويشتري بثمنه فرس يصلح لما وقف له. قال في رواية بكر بن محمد: إن أمكن أن يشتري بثمنه فرسًا اشترى وجعل حبيسًا، وإلا جعله في ثمن دابة حبيس، وكذلك المسجد إذا خرب وحصل بموضع لا يصلي فيه جاز نقله إلى موضع عامر، وجاز بيع عرصته. نص عليه في رواية عبد الله. قال أبو بكر: وتكون الشهادة في ذلك على الإمام. قال: وقال أبو بكر في كتاب [القولين]: وقد روي علي بن سعيد: أن المساجد لا تباع، ولكن تنقل. قال أبو بكر: وبالأول أقول، يعني رواية عبد الله؛ لإجماعهم على جواز بيع الفرس الحبيس. وقال أحمد في رواية الحسن بن ثواب في عبد لرجل بمكة ـ يعني وقفًا ـ فأبي العبد أن يعمل: / يباع فيبدل عبدًا مكانه. ذكرها القاضي أبو يعلى في مسألة عتق الرهن في [التعليق]. قال أبو البركات: فجعل امتناعه كتعطل نفعه. يعني: ويلزم بإجباره على العمل كما يجبر المستأجر، وإن كان امتناعه محرمًا، وجعل تعذر الانتفاع بهذا الوجه كتعطله، نظرًا إلى مصلحة الوقف.
وأما إبدال المسجد بغيره للمصلحة مع إمكان الانتفاع بالأول، ففيه قولان في مذهب أحمد. واختلف أصحابه في ذلك، لكن الجواز أظهر في نصوصه وأدلته. والقول الآخر ليس عنه به نص صريح، وإنما تمسك أصحابه بمفهوم خطه، فإنه كثيرًا ما يفتي بالجواز للحاجة، وهذا قد يكون تخصيصًا للجواز بالحاجة، وقد يكون التخصيص لكون ذلك هو الذي سئل عنه واحتاج إلى بيانه. وقد بسط أبو بكر عبد العزيز ذلك في [الشافي] الذي اختصر منه [زاد المسافر] فقال: حدثنا الخَلاّل، ثنا صالح بن أحمد، ثنا أبي، ثنا يزيد بن هارون، ثنا المسعودي، عن القاسم، قال: لما قدم عبد الله ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ على بيت المال، كان سعد بن مالك قد بني / القصر، واتخذ مسجدًا عند أصحاب التمر، قال: فَنُقبَ بيتُ المال، فأخذ الرجل الذي نقبه، فكتب إلى عمر بن الخطاب، فكتب عمر: ألا تقطع الرجل وانقل المسجد، واجعل بيت المال في قبلته، فإنه لن يزال في المسجد مصل. فنقله عبد الله، فخط له هذه الخطة. قال صالح: قال أبي: يقال: إن بيت المال نقب من مسجد الكوفة، فحول عبد الله بن مسعود المسجد. فموضع التمارين اليوم في موضع المسجد العتيق. قال: وسألت أبي عن رجل بني مسجدًا، ثم أراد تحويله إلى موضع آخر؟ قال: إن كان الذي بني المسجد يريد أن يحوله خوفًا من لصوص، أو يكون موضعه موضع قذر، فلا بأس أن يحوله. يقال: إن بيت المال نقب، وكان في المسجد، فحول ابن مسعود المسجد. ثنا محمد ابن على، ثنا أبو يحيي، ثنا أبو طالب: سئل أبو عبد الله: هل يحول المسجد؟ قال: إذا كان ضيقًا لا يسع أهله فلا بأس أن يجعل إلى موضع أوسع منه. ثنا محمد بن علي، ثنا عبد الله بن أحمد، قال: سألت أبي عن مسجد خرب: تري أن تباع أرضه وتنفق على مسجد آخر أحدثوه؟ قال: إذا لم يكن له جيران، ولم يكن أحد يعمره، فلا أري به بأسًا أن يباع وينفق على الآخر. ثنا محمد بن عبد الله، ثنا أبو داود، قال: سمعت أحمد سئل عن مسجد فيه خشبتان لهما قيمة / وقد تشعثت، وخافوا سقوطه: أتباع هاتان الخشبتان وينفق على المسجد ويبدل مكانهما جذعين؟ قال: ما أري به بأسًَا. واحتج بدواب الحبيس التي لا ينتفع بها، تباع ويجعل ثمنها في الحبيس. ولا ريب أن في كلامه ما يبين جواز إبدال المسجد للمصلحة، وإن أمكن الانتفاع به، لكون النفع بالثاني أكمل، ويعود الأول طلقًا. وقال أبو بكر في [زاد المسافر]: قال أحمد في رواية صالح: نقب بيت المال بالكوفة، وعلى بيت المال ابن مسعود، فكتب إلى عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ فكتب إليه عمر: أن انقل المسجد، وصىر بيت المال في قبلته، فإنه لن يخلو من مصل فيه. فنقله سعد إلى موضع التمارين اليوم، وصار سوق التمارين في موضعه، وعمل بيت المال في قبلته، فلا بأس أن تنقل المساجد إذا خربت. وقال في رواية أبي طالب: إذا كان المسجد يضيق بأهله، فلا بأس أن يحول إلى موضع أوسع منه. جوز تحويله لنقص الانتفاع بالأول لا لتعذره. وقال القاضي أبو يعلى: وقال في رواية صالح: يحول المسجد خوفًا من لصوص، وإذا كان موضعه قذرًا. وبالثاني قال القاضي أبو يعلى. وقال في رواية أبي داود: في مسجد أراد أهله أن يرفعوه من الأرض؛ ويجعل تحته سقاية وحوانيت، وامتنع بعضهم من ذلك: ينظر إلى قول أكثرهم / ولا بأس به. قال: فظاهر هذا أنه أجاز أن يجعل سفل المسجد حوانيت وسقاية. قال: ويجب أن يحمل هذا على أن الحاجة دعت إلى ذلك لمصلحة تعود بالمسجد. قال: وكان شيخنا أبو عبد الله ـ هو ابن حامد ـ يمنع من ذلك، ويتأول المسألة على أنهم اختلفوا في ذلك عند ابتداء بناء المسجد قبل وقفه. قال: وليس يمتنع على أصلنا جواز ذلك إذا كان فيه مصلحة؛ لأنا نجيز بيعه ونقله إلى موضع آخر. قال: وقد قال أحمد في رواية بكر بن محمد في مسجد ليس بحصين من الكلاب وغيرها، وله منارة، فرخص في نقضها ويبني بها حائط المسجد للمصلحة. ومال ابن عقيل في [الفصول] إلى قول ابن حامد، فقال: هذا يجب أن يحمل على أن الحاجة دعت إلى ذلك، كما أن تغيير المسجد ونقله ما جاز عنده إلا للحاجة، فيحمل هذا الإطلاق على ذلك، لا على المستقر. قال: والأشبه أن يحمل على مسجد يبتدأ إنشاؤه. وعلى هذا فاختلفوا: كيف يبني؟ فأما بعد كونه مسجدًا فلا يجوز أن يباع، ولا أن يجعل سقاية تحته. وكذلك رجح أبو محمد قول ابن حامد، وقال: هو أصح وأولى وإن خالف الظاهر. قال: فإن المسجد لا يجوز نقله وإبداله وبيع ساحته وجعلها سقاية وحوانيت إلا عند تعذر الانتفاع، والحاجة إلى سقاية وحوانيت لا يعطل نفع المسجد، فلا يجوز صرفه في ذلك. قال: ولو جاز جعل / أسفل المسجد سقاية وحوانيت لهذه الحاجة لجاز تخريب المسجد وجعله سقاية وحوانيت، ويجعل بدله مسجد في موضع آخر. وهذا تكلف ظاهر لمخالفة نصه؛ فإن نصه صريح في أن المسجد إذا أرادوا رفعه من الأرض، وأن يجعل تحته سقاية وحوانيت، وأن بعضهم امتنع من ذلك، وقد أجاب بأنه ينظر إلى قول أكثرهم. ولو كان هذا عند ابتدائه لم يكن لأحد أن ينازع في بنيه إذا كان جائزا، ولم ينظر في ذلك إلى قول أكثرهم، فإنهم إن كانوا مشتركين في البناء لم يجبر أحد الشركاء على ما يريده الآخرون إذا لم يكن واجبًا، ولم يُبن إلا باتفاقهم، ولأن قوله: أرادوا رفعه من الأرض، وأن يجعل تحته سقاية، بين في أنه ملصق بالأرض، فأرادوا رفعه وجعل سقاية تحته. وأحمد اعتبر اختيار الأكثر من المصلين في المسجد؛ لأن الواجب ترجيح أصلح الأمرين، وما اختاره أكثرهم كان أنفع للأكثرين؛ فيكون أرجح. وأيضًا، فلفظ المسألة على ما ذكره أبو بكر عبد العزيز، قال: قال في رواية سليمان بن الأشعث: إذا بني رجل مسجدًا فأراد غيره أن يهدمه ويبنيه بناء أجود من الأول فأبي عليه الباني الأول، فإنه يصير إلى قول الجيران ورضاهم، إذا أحبوا هدمه وبناءه، وإذا أرادوا أن يرفعوا المسجد من الأرض ويعمل في أسفله سقاية، فمنعهم من ذلك مشائخ ضعفاء وقالوا: لا نقدر أن نصعد، فإنه يرفع ويجعل سقاية، ولا أعلم/ بذلك بأسًا، وينظر إلى قول أكثرهم، فقد نص على هذا، وتبديل بنائه بأجود وإن كره الواقف الأول، وعلى جواز رفعه وعمل سقاية تحته، وإن منعهم مشائخ ضعفاء، إذا اختار ذلك الجيران، واعتبر أكثرهم. قال: وقال في رواية ابن الحكم: إذا كان للمسجد منارة، والمسجد ليس بحصين، فلا بأس أن تنقض المنارة فتجعل في حائط المسجد لتحصينه. قال أبو العباس: وما ذكروه من الأدلة لو صح لكان يقتضي ترجيح غير هذا القول، فيكون في المسألة قولان، وقد رجحوا أحدهما، فكيف وهي حجج ضعيفة؟ ! أما قول القائل: لا يجوز النقل والإبدال إلا عند تعذر الانتفاع، فممنوع، ولم يذكروا على ذلك حجة لا شرعية ولا مذهبية، فليس عن الشارع ولا عن صاحب المذهب هذا النفي الذي احتجوا به، بل قد دلت الأدلة الشرعية وأقوال صاحب المذهب على خلاف ذلك، وقد قال أحمد: إذا كان المسجد يضيق بأهله فلا بأس أن يحول إلى موضع أوسع منه. وضيقه بأهله لم يعطل نفعه، بل نفعه باق كما كان، ولكن الناس زادوا، وقد أمكن أن يبني لهم مسجد آخر، وليس من شرط المسجد أن يسع جميع الناس، ومع هذا جوز تحويله إلى موضع آخر؛ لأن اجتماع الناس في مسجد واحد أفضل من تفريقهم في مسجدين؛ لأن الجمع كلما كثر كان أفضل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (صلاة الرجل مع الرجل أزكي من صلاته وحده، /وصلاته مع الرجلين أزكي من صلاته مع الرجل، وما كان أكثر فهو أحب إلى الله تعالى) رواه أبو داود وغيره. وهذا مع أنه يجوز بناء مسجد آخر إذا كثر الناس وإن كان قريبًا، مع منعه لبناء مسجد ضرارًا. قال أحمد في رواية صالح: لا يبني مسجد يراد به الضرار لمسجد إلى جانبه، فإن كثر الناس فلا بأس أن يبني وإن قرب، فمع تجويزه بناء مسجد آخر عند كثرة الناس وإن قرب، أجاز تحويل المسجد إذا ضاق بأهله إلى أوسع منه؛ لأن ذلك أصلح وأنفع، لا لأجل الضرورة، ولأن الخلفاء الراشدين: عمر، وعثمان ـ رضي الله عنهما ـ غيرا مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر عمر بن الخطاب بنقل مسجد الكوفة إلى مكان آخر، وصار الأول سوق التمارين، للمصلحة الراجحة؛ لا لأجل تعطل منفعة تلك المساجد، فإنه لم يتعطل نفعها؛ بل ما زال باقيًا، وكذلك خلفاء المسلمين بعدهم، كالوليد، والمنصور، والمهدي، فعلوا مثل ذلك بمسجدي الحرمين، وفعل ذلك الوليد بمسجد دمشق وغيرها، مع مشورة العلماء في ذلك وإقرارهم، حتى أفتى مالك وغيره بأن يشتري الوقف المجاور للمسجد ويعوض أهله عنه. فجوزوا بيع الوقف والتعويض عنه لمصلحة المسجد، لا لمصلحة أهله، فإذا بيع وعوض عنه لمصلحة أهله كان أولى بالجواز. وقول القائل: لو جاز جعل أسفل المسجد سقاية وحوانيت لهذه / الحاجة لجاز تخريب المسجد، وجعله سقاية وحوانيت ويجعل بدله مسجد في موضع آخر. قيل: نقول بموجب ذلك، وهذا هو الذي ذكره أحمد، ورواه عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه، وعليه بني مذهبه، فإن عمر بن الخطاب خرب المسجد الأول ـ مسجد الجامع الذي كان لأهل الكوفة ـ وجعل بدله مسجدًا في موضع آخر من المدينة، وصار موضع المسجد الأول سوق التمارين. فهذه الصورة التي جعلوها نقضًا في المعارضة وأصلًا في قياسهم هي الصورة التي نقلها أحمد وغيره عن الصحابة، وبها احتج هو وأصحابه على من خالفهم، وقال أصحاب أحمد: هذا يقتضي إجماع الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ عليها. فقالوا ـ وهذا لفظ ابن عقيل في [المفردات] في مسألة إبدال المسجد ـ وأيضًا ـ روى يزيد بن هارون، قال: ثنا المسعودي، عن القاسم، قال: لما قدم عبد الله بن مسعود على بيت المال، كان سعد بن مالك قد بني القصر، واتخذ مسجدًا عند أصحاب التمر، فنقب بيت المال، وأخذ الرجل الذي نقبه، فكتب إلى عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه، فكتب عمر: لا تقطع الرجل، وانقل المسجد، واجعل بيت المال في قبلة المسجد، فإنه لن يزال في المسجد مصل. فنقله عبد الله، فخط له هذه الخطة. قال أحمد: يقال: إن بيت المال نقب في مسجد الكوفة، فحول عبد الله المسجد، وموضع التمارين اليوم في موضع المسجد العتيق. قال ابن عقيل: وهذا كان مع توفر الصحابة، فهو/ كالإجماع؛ إذ لم ينكر أحد ذلك، مع كونهم لا يسكتون عن إنكار ما يعدونه خطأ؛ لأنهم أنكروا على عمر النهي عن المغالات في الصدقات، حتى ردت عليه امرأة، وردوه عن أن يحد الحامل، فقالوا: إن جعل الله لك على ظهرها سبيلًا فما جعل لك على ما في بطنها سبيلًا. وأنكروا على عثمان في إتمام الصلاة في الحج، حتى قال: إني دخلت بلدًا فيه أهلي. وعارضوا عليا حين رأي بيع أمهات الأولاد، فلو كان نقل المسجد منكرًا لكان أحق بالإنكار؛ لأنه أمر ظاهر فيه شناعة. واحتج ـ أيضًا ـ بما روى أبو حفص في المناسك عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنه قيل لها: يا أم المؤمنين إن كسوة الكعبة قد يداول عليها؟ فقالت: تباع، ويجعل ثمنها في سبيل الخير. فأمرت عائشة ببيع كسوة الكعبة مع أنها وقف، وصرف ثمنها في سبيل الخير؛ لأن ذلك أصلح للمسلمين، وهكذا قال من رجح قول ابن حامد في وقف الاستغلال كأبي محمد، قال: وإن لم تتعطل منفعة الوقف بالكلية، لكن قلت: أو كان غيره أنفع منه وأكثر ردًا على أهل الوقف لم يجز بيعه؛ لأن الأصل تحريم البيع، وإنما أبيح للضرورة صيانة لمقصود الوقف عن الضياع، مع إمكان تحصيله، ومع الانتفاع به، وإن قلنا: يضيع المقصود، اللهم إلا أن يبلغ من قلة النفع إلى حد لا يعد نفعًا، فيكون وجود ذلك كالعدم. فيقال: ما ذكروه ممنوع، ولم يذكروا عليه دليلًا شرعيًا ولا مذهبيًا، / وإن ذكروا شيئا من مفهوم كلام أحمد أو منطوقه، فغايته أن يكون رواية عنه قد عارضها رواية أخرى عنه هي أشبه بنصوصه وأصوله، وإذا ثبت في نصوصه وأصوله جواز إبدال المسجد للمصلحة الراجحة فغيره أولي. وقد نص على جواز بيع غيره ـ أيضًا ـ للمصلحة، لا للضرورة، كما سنذكره إن شاء الله ـ تعالى. وأيضًا، فيقال لهم: لا ضرورة إلى بيع الوقف، وإنما يباع للمصلحة الراجحة ولحاجة الموقوف عليهم إلى كمال المنفعة، لا لضرورة تبيح المحظورات، فإنه يجوز بيعه لكمال المنفعة وإن لم يكونوا مضطرين، ولو كان بيعه لا يجوز ـ لأنه حرام ـ لم يجز بيعه لضرورة ولا غيرها، كما لم يجز بيع الحر المعتق ولو اضطر سيده المعتق إلى ثمنه، وغايته أن يتعطل نفعه فيكون كما لو كان حيوانًا فمات. ثم يقال لهم: بيعه في عامة المواضع لم يكن إلا مع قلة نفعه، لا مع تعطل نفعه بالكلية، فإنه لو تعطل نفعه بالكلية لم ينتفع به أحد، لا المشتري ولا غيره. وبيع ما لا منفعة فيه لا يجوز ـ أيضًا ـ فغايته أن يخرب ويصير عرصة، وهذه يمكن الانتفاع بها بالإجارة بأن تكري لمن يعمرها، وهو الذي يسميه الناس [الحكر] ويمكن ـ أيضًا ـ أن يستسلف ما يعمر به ويوفي من كري الوقف. وهذا على وجهين: أحدهما: أن يتبرع متبرع بالقرض، ولكن هذا لا يعتمد عليه. /والثاني: أن يؤجر إجارة غير موصوفة في الذمة، وتؤخذ الأجرة فيعمـر بها، ليستوفي المستأجر المقابلة للأجرة، وهذان طريقان يكونان للناس إذا خرب الوقف، تارة يؤجرون الأرض وتبقي حكرًا، وتارة يستسلفون من الأجرة ما يعمرون به، وتكون تلك الأجرة أقل منها لو لم تكن سلفًا. وعامة ما يخرب من الوقف يمكن فيه هذا. ومع هذا، فقد جوزوا بيعه والتعويض بثمنه؛ لأن ذلك أصلح لأهل الوقف لا للضرورة، ولا لتعطل الانتفاع بالكلية، فإن هذا لا يكاد ينفع، وما لا ينتفع به لا يشتريه أحد، لكن قد يتعذر ألا يحصل مستأجر، ويحصل مشترٍ؛ ولكن جواز بيع الوقف إذا خرب ليس مشروطًا بألا يوجد مستأجر، بل يباع ويعوض عنه إذا كان ذلك أصلح من الإيجار، فإنه إذا أكريت الأرض مجردة كان ـ كراها قليلًا، وكذلك إذا استسلفت الأجرة للعمارة قلت المنفعة، فإنهم لا ينتفعون بها مدة استيفاء المنفعة المقابلة لما عمر به، وإنما ينتفعون بها بعد ذلك، ولكن الأجرة المسلفة تكون قليلة، ففي هذا قلت منفعة الوقف. فتبين أن المسوغ للبيع والتعويض نقص المنفعة؛ لكون العوض أصلح وأنفع، ليس المسوغ تعطيل النفع بالكلية. ولو قدر التعطيل لم يكن ذلك من الضرورات التي تبيح المحرمات، وكلما جوز للحاجة لا للضرورة كتحلي النساء بالذهب والحرير، والتداوي بالذهب والحرير، فإنما أبيح لكمال / الانتفاع، لا لأجل الضرورة التي تبيح الميتة ونحوها، وإنما الحاجة في هذا تكميل الانتفاع، فإن المنفعة الناقصة يحصل معها عوز يدعوها إلى كمالها، فهذه هي الحاجة في مثل هذا. وأما الضرورة التي يحصل بعدمها حصول موت أو مرض أو العجز عن الواجبات، كالضرورة المعتبرة في أكل الميتة، فتلك الضرورة المعتبرة في أكل الميتة لا تعتبر في مثل هذا. والله أعلم. ولهذا جوز طائفة من الأصحاب هذا الموضع، بينوا أنه عند التعطيل بالكلية ينتهي الوقف، وإنما الكلام إذا بقي منه ما ينتفع به. ومن هؤلاء أبو عبد الله بن تيمية قال في [ترغيب القاصد]: الحكم الخامس: إذ تعطل الوقف فله أحوال: أحدها: أن ينعدم بالكلية، كالفرس إذا مات، فقد انتهت الوقفية. الثانية: أن يبقي منه بقية متمولة، كالشجرة إذا عطبت، والفرس إذا أعجف، والمسجد إذا خرب، فإن ذلك يباع ويصرف في تحصيل مثله، أو في شقيص من مثله. الثالثة: حُصر المسجد إذا بُليت، وجذوعه إذا تكسرت وتحطمت، فإنه يباع ويصرف في مصالح المسجد، وكذلك إذا أشرفت جذوعه على التكسير أو داره على الانهدام، وعلم أنه لو أخر لخرج عن أن ينتفع به، فإنه يباع. /قال أحمد ـ رحمه الله تعالى ـ في رواية أبي داود: إذا كان في المسجد خشبات لها قيمة، وقد تشعثت جاز بيعها وصرف ثمنها عليه. الرابعة: إذا خرب المسجد، وآلته تصلح لمسجد آخر يحتاج إلى مثلها، فإنها تحول إليه، وأما الأرض فتباع، هذا إذا لم يمكن عمارته بثمن بعض آلته، وإلا بيع ذلك وعمر به. نص عليه. الخامسة: إذا ضاق المسجد بأهله، أو تفرق الناس عنه، لخراب المحلة، فإنه يباع ويصرف ثمنه في إنشاء مسجد آخر، أو في شِقْصٍ في مسجد. فقد بين من قال هذا: أنه لا يمكن بيعه مع تعطل المنفعة بالكلية؛ بل إذا أبقي منه ما ينتفع به، وحينئذ فالمقصود التعويض عنه بما هو أنفع لأهل الوقف منه، ولم يشترط أحد من الأصحاب تعذر إجارة العرصة، مع العلم بأنه في غالب الأحوال يمكن إجارة العرصة، لكن يحصل لأهل الوقف منها أقل مما كان يحصل لو كان معمورًا، وإذا بيعت، فقد يشتري بثمنها ما تكون أجرته أنفع لهم؛ لأن العرصة يشتريها من يعمرها لنفسه فينتفع بها ملكًا، ويرغب فيها لذلك، ويشتري بثمنها ما تكون غلته أنفع من غلة العرصة، فهذا محل الجواز الذي اتفق الأصحاب عليه، وحقيقته تعود إلى أنهم عوضوا أهل الوقف عنه بما هو أنفع لهم منه. /فإن قيل: فلفظ الخرقي، وإذا خرب الوقف ولم يرد شيئا بيع واشترى بثمنه ما يرد على أهل الوقف. قيل: هذا اللفظ إما أن يراد به أنه لم يرد شيئا مما كان يرده لما كان معمورًا، مثل دور وحوانيت خربت، فإنها لو تشعثت ردت بعض ما كانت ترده مع كمال العمارة، بخلاف ما إذا خربت بالكلية، فإنها لا ترد شيئا من ذلك. وأما أن يراد به: لا ترد شيئا، لتعطيل نفعه من جميع الوجوه، فإن كان مراده هو الأول وهو الظاهر الذي يليق أن يحمل عليه كلامه، فهو مطابق لما قلناه؛ ولهذا قال: بيع. ولو تعطل نفعه من كل الجهات لم يجز بيعه. وإن كان مراده: أنه تعطل على أهل الوقف انتفاعهم به من كل وجه؛ لتعذر إجارة العرصة مع إمكان انتفاع غيرهم بها، كما قال أحمد في العبد، فإن أراد هذه الصورة كان منطوق كلامه موافقًا لما تقدم، ولكن مفهومه يقتضي أنه إذا أمكن أهل الوقف أن يؤجروه بأقل أجرة لم يجز بيعه، وهذا غايته أن يكون قولًا في المذهب، لكن نصوص أحمد تخالف ذلك في بيع المسجد والفرس الحبيس وغيرهما؛ كما قد ذكر المسجد. وأما الفرس الحبيس إذا عطب، فإن الذي يشتريه قد يشتريه ليركبه أو يديره في الرحي، ويمكن أهل الجهاد أن ينتفعوا به في مثل ذلك، مثل الحمل عليه، واستعماله في الرحي وإجارته وانتفاعهم بأجرته، ولكن المنفعة المقصودة لحبسه ـ وهي الجهاد عليه ـ تعطلت، ولم يتعطل انتفاعهم به بكل وجه.
وإذا كان يجوز في ظاهر مذهبه في المسجد الموقوف الذي يوقف للانتفاع بعينه ـ وعينه محترمة شرعًا ـ يجوز أن يبدل به غيره للمصلحة، لكون البدل أنفع وأصلح، وإن لم تتعطل منفعته بالكلية، ويعود الأول طلقا، مع أنه مع تعطل نفعه بالكلية: هل يجوز بيعه؟ عنه فيه روايتان، فلأن يجوز الإبدال بالأصلح والأنفع فيما يوقف للاستغلال أولى وأحري، فإنه عنده يجوز بيـع ما يوقف للاستغلال للحاجة قولًا واحدًا، وفي بيع المسجد للحاجة روايتان. فإذا جوز على ظاهر مذهبه أن يجعل المسجد الأول طلقًا، ويوقف مسجد بدله للمصلحة، وإن لم تتعطل منفعة الأول، فلأن يجوز أن يجعل الموقوف للاستغلال طلقًا ويوقف بدله أصلح منه، وإن لم تتعطل منفعة الأول أحرى، فإن بيع الوقف المستغل أولى من بيع المسجد، وإبداله أولى من إبدال المسجد؛ لأن المسجد تحترم عينه شرعًا، ويقصد الانتفاع بعينه، فلا يجوز إجارته ولا المعاوضة عن منفعته، بخلاف وقف الاستغلال، فإنه يجوز إجارته والمعاوضة عن نفعه، وليس المقصود أن يستوفي الموقوف عليه منفعته بنفسه كما يقصد مثل ذلك في المسجد، ولا له حرمة شرعية لحق الله ـ تعالى ـ كما للمسجد. /وأيضًا، فالوقف لله فيه شبه من التحرير، وشبه من التمليك، وهو أشبه بأم الولد عند من يمنع نقل الملك فيها، فإن الوقف من جهة كونه لا يبيعه أحد ـ يملك ثمنه، ولا يهبه، ولا يورث عنه ـ يشبه التحرير والإعتاق. ومن جهة أنه يقبل المعاوضة بأن يأخذ عوضه فيشتري به ما يقوم مقامه، يشبه التمليك، فإنه إذا أتلف ضمن بالبدل واشترى بثمنه ما يقوم مقامه عند عامة العلماء، بخلاف المعتق، فإنه صار حرًا لا يقبل المعاوضة. فالبيع الثابت في الطلق لا يثبت في الوقف بحال، وهو أن يبيعه المالك، أو وليه أو وكيله، ويملك عوضه من غير بدل يقوم مقامه. وهذا هو البيع الذي تقرن به الهبة والإرث، كما قال عمر بن الخطاب في وقفه: لا يباع، ولا يوهب، ولا يورث. ويشبه هذا: أن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان ـ رضي الله عنهما ـ جعلا الأرض المفتوحة عنوة فيء ا للمسلمين، كأرض السواد وغيرها، ولم يقسما شيئا مما فتح عنوة. ولما كانوا يمنعون من شرائها؛ لئلا يقر المسلم بالصغار ـ فإن الخراج كالجزية أو يبطل حق المسلمين ـ ظن بعض العلماء أنهم منعوا بيعها لكونها وقفًا، والوقف لا يباع، وزعموا أن ذلك يوجب أن مكة لا تباع لكونها فتحت عنوة. وهذا غلط؛ فإن أرض الخراج المفتوحة عنوة المجعولة فيء ا توهب وتورث، فإنها تنتقل عمن هي بيده إلى وارثه ويهبها، وهذا ممتنع في الوقف. وإذا بيعت لمن يقوم فيها مقام البائع، ولم يغير شيئا، فهذه المسألة تعلقت الأحكام الشرعية بأعيانها، وما سواها تعلقت بجنسه، لا بعينه فيؤدي خراجها، فلم يكن في ذلك ضرر على مستحقها، ولا زال حقهم عنها، / والوقف إنما منع بيعه لئلا يبطل حق مستحقيه، وهذه يجوز فيها إبدال شخص بشخص بالاتفاق، فسواء كان بطريق المعاوضة أو غيرها. والمقصود هنا أن الوقف فيه شوب التحرير والتمليك؛ ولهذا اختلف الفقهاء في الوقف على المعين: هل يفتقر إلى قبوله كالهبة أو لا يفتقر إلى قبوله كالعتق؟ على قولين مشهورين، بخلاف الوقف على جهة عامة كالمساجد. والوقف على المعين أقرب إلى التمليك من وقف المساجد ونحوها مما يوقف على جهة عامة، ووقف المساجد أشبه بالتحرير من غيرها، فإنها خالصة لله ـ عز وجل ـ كما قال تعالى: ولهذا منع الشارع أن يجعل بعض مملوكه حرًا أو بعضه رقيقًا. وقال: ليس لله شريك، فإذا أعتق بعضه عتق جميعه، وفي الصحيحين عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أعتق شركا له في عبدٍ، وكان له مالٌ يبلغ ثمن العبد قُوِّم عليه قيمة عدلٍ، فأعطى شركاءه حصصهم، وعتق عليه العبد)، وكذلك/ في الصحيحين مثله من حديث أبي هريرة. فأوجب تكميل عتقه، وإن كان ملكًا لغيره، وألزم المعتق بأن يعطي شركاءه حصصهم من الثمن، لتكميل عتق العبد لئلا يكون لله شريك. ومذهب الأئمة الأربعة وسائر الأمة: وجوب تكميل العتق؛ لكن الجمهور يقولون: إذا كان موسرًا ألزم بالعوض، كما في حديث ابن عمر وأبي هريرة، وإن كان معسرًا، فمنهم من قال بالسعاية: بأن يستسعي العبد، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين، اختارها أبو الخطاب. ومنهم من لا يقول بها، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد في الرواية الأخرى، واختارها أكثر أصحابه. والمقصود أن المساجد أبلغ الموقوفات تحريرًا وشبهًا بالعتق، وليس لأحد أن يعتاض عن منفعتها كما يجوز ذلك في غيرها، كما أنه لا يملك أحد أعتق عبدًا منافعه، ومع هذا، فأحمد اتبع الصحابة في جواز إبدال المسجد بمسجد آخر، وجعل المسجد الأول سوقًا. وجوز إبدال الهدي والأضحية بخير منها مع أنها ـ أيضًا ـ لله تعالى يجب ذبحها لله، فلأن يجوز الإبدال في غيرها وهـو أقـرب إلى التمليك أولي، فإن حقوق الآدميين تقبل من المعاوضة والبدل ما لا يقبلها حقوق الله ـ تعالى، ولا تمنع المعاوضة في حق الآدمي إلا أن يكون في ذلك ظلم لغيره، أو يكون في ذلك حق لله، أو يكون من حقوق الله، فإنه لا يجوز إبدال الصلوات والحج بعمل آخر، ولا القبلة/ بقبلة أخرى، ولا شهر رمضان بشهر آخر، ولا وقت الحج ومكانه بوقت آخر ومكان آخر؛ بل أهل الجاهلية لما ابتدعوا النسيء الذي يتضمن إبدال وقت الحج بوقت آخر قال الله ـ تعالى: والمساجد الثلاثة التي بنتها الأنبياء ـ عليهم السلام ـ وشرع للناس السفر إليها، ووجب السفر إليها بالنذر، لا يجوز إبدال عرصتها بغيرها؛ بل يجوز الزيادة فيها، وإبدال التاليف والبناء بغيره، كما دلت عليه السنة وإجماع الصحابة، بخلاف غيرها، فإنه لا يتعين للنذر، ولا يسافر إليه، فيجوز إبداله للمصلحة كما تقدم والله أعلم. ومما يبين ذلك: أن الوقف على معين قد تنازع العلماء فيه: هل هو ملك للموقوف عليه؟ أو هو باق على ملك الواقف؟ أو هو ملك لله ـ تعالى؟ على ثلاثة أقوال معروفة في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما، وأكثر أصحاب أحمد يختارون أنه ملك للموقوف عليه كالقاضي، وابن عقيل. وأما المسجد ونحوه، فليس ملكًا لمعين باتفاق المسلمين، وإنما يقال: هو ملك لله. وقد يقال: هو ملك لجماعة المسلمين؛ لأنهم المستحقون للانتفاع به، فإذا جاز إبدال هذا بخير منه للمصلحة، فالأول أولي، إما بأن يعوض عنها بالبدل، وإما أن تباع ويشتري بثمنها البدل، والإبدال كما تقدم يبدل بجنسه بما هو أنفع للموقوف عليه.
قد نص أحمد على أبلغ من ذلك ـ وهو وقف ما لا ينتفع به إلا مع إبدال عينه ـ فقال أبو بكر عبد العزيز في [الشافي]: نقل الميموني عن أحمد: أن الدراهم إذا كانت موقوفة على أهل بيته، ففيها الصدقة، وإذا كانت على المساكين، فليس فيها صدقة. قلت: رجل وقف ألف درهم في السبيل؟ قال: إن كانت للمساكين فليس فيها شيء. قلت: فإن وقفها في الكُراع والسلاح؟ قال: هذه مسألة لبس واشتباه. قال أبو البركات: وظاهر هذا جواز وقف الأثمان لغرض القرض، أو التنمية، والتصدق بالربح، كما قد حكينا عن مالك والأنصاري. قال: ومذهب مالك صحة وقف الأثمان للقرض، ذكره صاحب [التهذيب] وغيره في الزكاة، وأوجبوا فيها الزكاة كقولهم في الماشية الموقوفة على الفقراء. وقال محمد ابن عبد الله الأنصاري: يجوز وقف الدنانير؛ لأنه لا ينتفع بها إلا باستهلاك عينها، وتدفع مضاربة، ويصرف ربحها في مصرف الوقف. ومعلوم أن القرض والقراض يذهب عينه ويقوم بدله مقامه، وجعل المبدل به قائمًا مقامه لمصلحة الوقف، وإن لم تكن الحاجة ضرورة الوقف لذلك. وهذه المسألة فيها نزاع في مذهبه، فكثير من أصحابه منعوا وقف الدراهم والدنانير؛ لما ذكره الخرقي ومن اتبعه، ولم يذكروا عن أحمد نصًا بذلك، ولم ينقله القاضي وغيره إلا عن الخرقي وغيره. /وقد تأول القاضي رواية الميموني، فقال: ولا يصح وقف الدراهم والدنانير على ما نقل الخرقي. قال: قال أحمد في رواية: الميموني إذا وقف ألف درهم في سبيل اللّه وللمساكين فلا زكاة فيها، وإن وقفها في الكراع والسلاح فهي مسألة لبس. قال: ولم يرد بهذا وقف الدراهم، وإنما أراد إذا أوصى بألف تنفق على أفراس في سبيل اللّه، فتوقف في صحة هذه الوصىة. قال أبو بكر: لأن نفقة الكراع والسلاح على من وقفه، فكأنه اشتبه عليه إلى أين تصرف هذه الدراهم إذا كان نفقة الكراع والسلاح على أصحابه. والأول أصح؛ لأن المسألة صريحة في أنه وقف الألف، لم يوص بها بعد موته؛ لأنه لو وصى أن تنفق على خيل وقفها غيره جاز ذلك بلا نزاع، كما لو وصى بما ينفق على مسجد بناه غيره. وقول القائل: إن نفقة الكراع والسلاح على من وقفه. ليس بمسلم في ظاهر المذهب، بل إن شرط له الواقف نفقة وإلا كان من بيت المال، كسائر ما يوقف للجهات العامة كالمساجد. وإذا تعذر من ينفق عليه بيع، ولم يكن على الواقف الإنفاق عليه. وأحمد توقف في وجوب الزكاة؛ لا في وقفها؛ فإنه إنما سئل عن ذلك؛ لأن مذهبه أن الوقف إذا كان على جهة خاصة، كبني فلان وجبت فيه الزكاة عنده في عينه. فلو وقف أربعين شاة على بني فلان وجبت الزكاة في عينها في المنصوص عنه، وهو مذهب مالك. قال في رواية مهنا فيمن وقف أرضاًِ أو غنما في سبيل اللّه: لا زكاة عليه، ولا عشر: هذا في السبيل؛ إنما يكون ذلك إذا جعله في قرابته؛/ولهذا قال أصحابه: هذا يدل على ملك الموقوف عليه لرقبة الوقف. وجعلوا ذلك إحدى الروايتين عنه. وفي مذهبه قول آخر: أنه لا زكاة في عين الوقف؛ لقصور ذلك، واختاره القاضي في [المجرد] وابن عقيل، وهو قول أكثر أصحاب الشافعي. وأما ما وقفه على جهة عامة؛ كالجهاد، والفقراء، والمساكين، فلا زكاة فيه في مذهبه، ومذهب الشافعي. وأما مالك فيوجب فيه الزكاة. فتوقف أحمد فيما وقف في الكراع والسلاح؛ لأن فيها اشتباها؛ لأن الكراع والسلاح قد يعينه لقوم بعينهم؛ إما لأولاده، أو غيرهم؛ بخلاف ما هو عام لا يعتقبه التخصيص.
|